كتاب الطهارة 31

الدرس في كتاب الطهارة 31، ألقاها

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله حمدًا كثيرًا مباركًا فيه، كما يحب ربنا ويرضى. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلم تسليمًا كثيرًا. ثم أما بعد:

توقفنا في الدرس الماضي عند الكلام على حالات المستحاضة، فنقرأ مرة أخرى الحالات التي ذكرها أو التي ذُكرت في هذا الكتاب، ثم نرجع فنعلق على هذه الحالات، وكذلك نضم إليها الحالات التي لم تذكر.

قالوا: المستحاضة لها ثلاث حالات:

الحالة الأولى: أن تكون لها عادة معروفة، بأن تكون مدة الحائض معلومة لديها قبل الاستحاضة. فهذه تجلس قدر عادتها، وتدع الصلاة والصيام، وتُعد حائضًا. فإذا انتهت عادتها، اغتسلت، وصَلَّت، وعَدَّت الدم الخارج دم استحاضة، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم لأم حبيبة: "أمكثي قدر ما كانت تحبسك حيضتك، ثم اغتسلي وصلي." والحديث، كما تقدم، ذكرنا أنه متفق عليه.

الحالة الثانية: إذا لم تكن لها عادة معروفة، لكن دمها متميز، بعضه يحمل صفة الحائض، بأن يكون أسود أو ثخينًا أو له رائحة، والباقي يحمله صفة الاستحاضة، دم أحمر ليس له رائحة. ففي هذه الحالة ترد إلى العمل بالتمييز، لقوله صلى الله عليه وسلم لفاطمة بنت أبي حبيش: "إذا كان دم الحائض فإنه أسود يعرف، فأمسكي عن الصلاة، فإذا كان الآخر فتوضئي وصلي، فإنما هو عرق." والحديث، كما ذكر في التخريج، أخرجه أبو داود وغيره. وذكر هنا أن العلامة الألباني رحمه الله تعالى صحح الحديث، وهو مما اختلف في تصحيحه وتضعيفه. فجماعة من أهل العلم من الحفاظ المتقدمين علّله.

الحالة الثالثة: إذا لم تكن لها عادة ولا صفة تمييز بها الحائض من غيره. فهذه تجلس غالب الحائض ستًا أو سبعًا، لأن هذه عادة غالب النساء، وما بعد هذه الأيام من الدم يكون دم استحاضة، فتغسله ثم تصلي وتصوم، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم لحمنة بنت جحش: "إنما هي ركضة من الشيطان، فتحيّض ستة أيام أو سبعة، ثم اغتسل، فإذا استنقأت فصلي وصومي، فإن ذلك يجزئك." ومعنى "ركضة من الشيطان" أي إن الشيطان هو الذي حرك هذا الدم. والحديث كذلك، كما ذكر، رواه أبو داود والترمذي وغيرهما رحمهم الله تعالى. وحسّنه بعض أهل العلم، وبعض أهل العلم ضعّف الحديث، وهو الصواب، لأنه من طريق عبد الله بن محمد بن عقيل، والراجح ضعفه.

وقد ضعف هذا الحديث طائفة من الحفاظ، منهم الإمام أبو حاتم الرازي، وكذلك الإمام أحمد، وكذلك الإمام ابن المنذر، وحكموا على أن متن الحديث فيه نكارة، وهو كما قال، عند التأمل في هذا الحديث، فإن في متن الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها: "أمسكي عن الصلاة، إن بدا لك ذلك." وهذا كما قال العلماء يدل على أن هذا الحديث لا يثبت من حيث المتن، إذ أن هذا الحكم حكم شرعي متوقف على الحكم الشرعي. قالوا: اليوم السابع، إما أن تكون حائضًا أو غير حائض. إذا حكمت على نفسها بأنها حائض وليست بحائض، فتكون بذلك تترك الصلاة لمدة يوم. وإن كان عليها صيام فرض كشهر رمضان، تترك الصيام وما يترتب على الحائض أثناء حيضها من الأحكام. وإن كان العكس، بمعنى إن جعلته ستة أيام وحقيقة أمرها أنها حائض لمدة سبعة أيام، فيكون طهرت أو عملت بأحكام الطاهرات، وهي في الحقيقة ليست بطاهرة. واضح هذا يا إخوة أم لا؟

فالحاصل أن الحديث من حيث المتن فيه نكارة. طيب، المسألة أو هذه المسألة تتضح وتظهر بإذن الله جل وعلا بتصوّر أحكامها تصوّرًا تامًا، لأن هذه المسألة، أي مسألة المستحاضة وأحكام المستحاضة، هي كما يقول العلماء رحمهم الله تعالى من أشكل أبواب الحيض، بل باب الحيض، كما يقول من يقول من أهل العلم، بأنه من أشكل أبواب الفقه وأعوصها.

فنرجع إلى مسألتنا. نتصور هذه المسألة، وقبل أن ندخل في تصور المسألة نذكر مقدمة بين يدي هذه المسألة، لأجل أن تمهد لنا هذه المسألة حتى نتصورها بإذن الله جل وعلا تصورًا تامًا.

النساء من حيث معرفتهن بالحيض: إما أن تكون المرأة لها عادة، وإما أن تكون مميزة. والعادة، كما مر معنا، أن يعاودها الدم أكثر من مرة في وقت معلوم ومحدود، أي في نفس الوقت يعاود المرأة الدم، فهذه المرأة يقال بأن لها عادة. والتمييز بأن تميز المرأة دمها، أي دم الحيض بأوصافه المعروفة. أما إذا كان الدم أحيانًا يأتيها في أول الشهر، وأحيانًا في وسطه، وأحيانًا قبل، وأحيانًا بعد، فهذه لا يقال بأنها معتادة، ولكن يقال بأنها مميزة.

والفقهاء في هذه المسألة من حيثها يقولون يعني مختلفون في المرأة، ولا سيما المستحاضة، بما تعمل المرأة المستحاضة.

الإمام مالك رحمه الله تعالى، والإمام مالك رحمه الله تعالى يقول العبرة في ذلك بالتمييز. الإمام مالك رحمه الله تعالى يقول العبرة في ذلك بالتمييز مطلقًا، بمعنى أن المرأة إذا لم تكن تميز دمها، فإنها تغتسل وتصلي لكل صلاة، هذا مذهب الإمام مالك رحمه الله تعالى، وهو رواية عن الإمام الشافعي رحمه الله تعالى، أي قول للإمام الشافعي رحمه الله تعالى في المسألة بأن العبرة بالتمييز.

القول الآخر هو قول أبي حنيفة والثوري، بأن العبرة في ذلك بالعادة، بأن المرأة إذا كانت معتادة، عملت بعادتها، فإن لم تكن لها عادة، تجلس أقل الحيض، ثم تغتسل وتصلي، أي لا تعمل بالتمييز. هذا القولان.

القول الثالث قول الإمام أحمد، أو قول للإمام أحمد رحمه الله تعالى، وهو كذلك قول للإمام الشافعي، وهو أنه يعمل بالعادة والتمييز، فإن اتفقا فالأمر في ذلك واضح، أي يعمل بهما، وإن اختلفا، أي اختلفا في حق المرأة المستحاضة، أمر العادة وأمر التمييز.

مثال ذلك: امرأة قبل أن يحصل لها الاستحاضة، كانت معتادة مثلًا أنها تحيض من أول الشهر لمدة أسبوع، مرت على هذا الأمر سنوات، جاءتها الاستحاضة، فلما جاءتها الاستحاضة، صارت ترى الدم، أي دم الحيض بأوصافه، تراه مثلًا في منتصف الشهر. واضح هذا يا إخوة؟ الآن تعمل بماذا؟ هل تعمل بالعادة التي اعتادتها بأن تترك الصلاة في أول الشهر لمدة أسبوع، أم أنها تعمل بالتمييز؟

في المسألة قولان، فذهب الإمام الشافعي رحمه الله تعالى إلى أنها تعمل بالتمييز، وهذا القول كذلك رواية عن أحمد. أما الرواية الأخرى عن الإمام أحمد رحمه الله تعالى، فتعمل بالعادة عند الاختلاف، أي تعمل بالعادة، والصحيح من هذا أنها تعمل بالتمييز، وذلك لأن التمييز علامة ظاهرة ويقينية، أما العادة، فإنها علامة مظنونة. والله جل وعلا يقول في كتابه الكريم: "ويسألونك عن المحيض قل هو أذى." فتعمل المرأة باليقين. اليقين أن تعمل بالتمييز مطلقًا وتترك العادة.

الأمر الثاني، أن من عادة النساء أن النساء ربما يحصل لهم اضطراب في الحيض، فترى في أول الشهر وأخرى في وسط الشهر وما شابه ذلك، وهذا يجعل مسألة الاعتداد بالعادة مظنونة، أما التمييز، فهو يقيني، فيعتبر به.

طيب، إذا علمنا هذا، ننتقل إلى صور الاستحاضة وأحكام المرأة فيها. بالتقسيم، تنقسم النساء في أمر الاستحاضة وفي معرفة الحيض بالنسبة للمستحاضة إلى خمس صور:

الصورة الأولى: أن تكون معتادة عندها عادة وعندها تمييز، فإن كان عندها عادة وعندها تمييز، عملت بهما، أي إذا اتفقت العادة والتمييز عملت بالعادة والتمييز معًا، وهذا الأمر فيه واضح، وهذه المسألة متفق عليها.

الصورة الثانية: أن تكون معتادة وليست مميزة. جاءتها الاستحاضة وليس عندها تمييز للدم، فماذا تصنع؟ الجواب: أنها ترجع إلى العادة. مثال ذلك: امرأة كانت قبل أن يحصل لها الاستحاضة، كانت تحيض من أول الشهر لمدة أسبوع، جاءت الاستحاضة، فصارت لا تمييز الدم. فماذا تصنع؟ الجواب: أنها تعمل بالعادة. ماهي العادة؟ أنها تمكث من أول الشهر لمدة أسبوع، فإذا مضى الأسبوع، تغتسل وتصلي، وتعمل ما يعمل الطاهرات. واضح هذا؟

الصورة الثالثة: أن تكون المرأة مميزة وليس لها عادة. فها هنا تعمل بالتمييز، مثلًا هي مستحاضة، لكن في وسط الشهر يتغير الدم، يخرج الدم بأوصاف دم الحيض المعروف، فماذا تصنع؟ تعمل بما يعمل به النساء الحيض، تكون حائضًا حتى تطهر. هذه الصورة الثالثة.

الصورة الرابعة: أن تكون معتادة، أي عندها عادة وعندها تمييز، لكن يختلفان. ما معنى أنهما يختلفان؟ أي أنه كان من قبل، لأن عندها عادة وتمييز يأتي من أول الشهر لمدة أسبوع، بعد الاستحاضة اختلفا، صار الدم بأوصافه المعروفة، أي دم الحيض بأوصافه المعروفة، يأتيها في منتصف الشهر. فالآن اختلفت عادتها وتمييزها، فبماذا تصنع؟ وبماذا تعمل؟ الجواب: أنها تعمل في مثل هذه الحال بالتمييز، لأنه علامة يقينية على الحيض.

طيب، هذه الصورة الرابعة.

الصورة الخامسة أو الحالة الخامسة: أن لا يكون لها عادة ولا يكون لها تمييز. مثال ذلك: المرأة المبتدئة، أول ما ابتدأ بها الحيض استحاضت، فليست عندها عادة حتى تعتادها وترجع إليها، وليس لها تمييز تميز به الدم، أو أنها كانت عندها عادة، لكنها نسيت تلك العادة. فمثل هذه المرأة ماذا تصنع؟

هذه الصورة، كما يقول الفقهاء رحمهم الله تعالى، هي من أشكال مسائل الحيض، وفيها أقوال واختلاف كبير بين أهل العلم. والأقرب والله أعلى وأعلم أنها إذا لم تكن مميزة ولم تكن لها عادة، وكان الدم يخرج على صفة معينة على مدار الشهر، على صفة معينة لا يتغير ولا يتبدل، فإنا حكمها حكم الطاهرات، صلي وتفعل ما يفعل الطاهرات. لأننا لو حكمنا عليها بحكم معين، ليس عندنا فيه دليل.

بعض أهل العلم ذكر أن هذه المرأة تتحيض ستة أيام أو سبعة أيام، كما ذكر هنا. ما الدليل والبرهان على هذا؟ الحديث لا يصح، ومن حيث المعنى والواقع والنظر، كما هو ظاهر، المعنى فيه اضطراب، كما تقدم وأن أشرنا. لأن اليوم السابع إما أن يكون يوم حيض، أو يوم طهر، فكونها الشهر هذا ستقول ستة أيام، والشهر الثاني سبعة أيام، يرجع الأمر إليها، والشريعة لم تأتِ بهذا الأمر. واضح يا جماعة؟

وإما أن يقال، كما قال بعض الفقهاء، تتحيض بحيض النساء، تنظر إلى حال النساء، كم يحضن النساء في البلدة مثلًا، أغلب النساء أنهن يحضن لمدة ستة أيام، فتصوم ستة أيام. يقول قد يقول قائل: نقضًا لهذه الأقوال، هب أن هؤلاء النساء يحضن ستة أيام في أول الشهر، وبعضهم في وسط الشهر، وبعضهم في آخر الشهر، فهي تعمل بإيش؟ تحيض ستة أيام في أول الشهر أو في وسط الشهر أو في آخر الشهر؟ واضح يا جماعة أم لا؟

فما من وقت يُفرض أنها تعمل بأنها حائض إلا وهناك احتمال أنها ليست بحائض، والعكس بالعكس. لماذا؟ لأن الأمر مظنون، والأصل أن الله جل وعلا قال لنبيه صلى الله عليه وسلم: "ويسألونك عن المحيض قل هو أذى." فإذا لم ترى المرأة الأذى الذي هو الحيض بأوصافه المعلومة التي تعرفها النساء، فإنها تبقى على أحكام الطاهرات.

وقد وجد من النساء من لا تحيض، كما ذكر ذلك العلماء، ووجد من النساء من تحيض مرة واحدة، ووجد من النساء من تحيض لمدة يوم، ومنهن لمدة يومين، ومنهن لمدة ثلاثة أيام، فالحاصل أن هذا الأمر ليس فيه دليلٌ واضحٌ ولا برهانٌ قاطع. فلأجل هذا نرجع إلى الأصل، ما هو الأصل؟ الأصل أن المرأة باقية على طهارتها، ولا تخرج عن هذا الأصل إلا ببرهان ودليل، ولا برهان ولا دليل. والله أعلى وأعلم، وهذا القول مقتضى قول الإمام مالك رحمه الله تعالى، والشافعي، وكذلك مقتضى قول أبي حنيفة والثوري رحمهم الله تعالى.

طيب، تتم لمسائل الحيض مما لم تذكر في الكتاب. هناك بعض المسائل التي تذكر في أبواب الحيض، وهي كثيرة، لكن نذكر مسألتين تتمة لهذا الباب:

المسألة الأولى: في حكم الكدرة والصفرة، ما حكم الكدرة والصفرة؟ والكدرة هو الماء المتكدر الذي يخرج من المرأة، والصفرة هو الماء الذي فيه نوع من الكدرة وتعلوه صفرة. فما حكم هذا؟

الفقهاء في هذه المسألة أقوال، وأصح هذه الأقوال، وهو الذي عليه كثير من أهل العلم، أن الكدرة والصفرة في الحيض حيض، وفي الطهر طهر. هذا خلاصة قول هؤلاء، لذا بعض أهل العلم يذكر قاعدة في هذا الباب، في باب الكدرة والصفرة، وهي أن الكدرة والصفرة في الطهر طهر، وفي الحيض حيض. إذا كانت في أثناء الحيض، فهي حيض. إذا كانت في أثناء الطهر، فهي طهر. إذا كانت متصلة بالحيض دون أن يفصلها الطهر، فهي طهر. إن كانت منفصلة عن الحيض بفاصل، فهي طهر.

هذا خلاصة القول في هذه المسألة، ودليلها حديث أم عطية رضي الله عنها وأرضاها في صحيح البخاري، ورواه كذلك أبو داود وغيره بإسناد صحيح. ولفظه عند أبي داود: قالت أم عطية رضي الله عنها وأرضاها: "كنا لا نعد الكدرة والصفرة بعد الطهر شيئًا." قال العلماء رحمهم الله تعالى في هذا الحديث منطوقًا ومفهومًا، فأما منطوقه فإن الكدرة والصفرة بعد الطهر ليست بشيء، أي ليست بحيض، ومفهومه أن الكدرة والصفرة في زمن الحيض حيض.

طيب، هذه مسألة. مسألة أخرى بما يعلم الطهر عند النساء، أي بما تعلم المرأة بأنها قد طهرت. وذكر العلماء رحمهم الله تعالى كذلك في هذه المسألة أقوالًا، منهم من ذكر أن علامة الطهر عند المرأة هو رؤية القصة البيضاء، ومع القصة البيضاء قالوا هو أن تدخل المرأة قطنة بيضاء بعد انتهاء الطهر، فتنظر إن خرج السائل أبيض فيقال خرجت القصة البيضاء فيكون طهراً، وهذه علامة. والعلامة الثانية: الجفاف. ومعنى الجفاف هو أن لا يخرج من المرأة شيء من الدم.

وقد وجد من النساء من لا تحيض، كما ذكر ذلك العلماء. وبعض النساء يطهرن بهذا، وبعضهن يطهرن بذلك. قال العلماء رحمهم الله تعالى إن اجتمع في المرأة الجفاف، وكذلك أنها ترى القصة البيضاء، وليس يكون الطهر. قالوا أنه يكون بالقصة البيضاء، لأنها علامة أقوى من مجرد الجفاف، وإلى هذا جنح الإمام البخاري رحمه الله تعالى في صحيحه.

نكتفي بهذا القدر. سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.

شاركنا على