وقفات عقدية مع أعظم آية في كتاب الله عز وجل

الدرس في وقفات عقدية مع أعظم آية في كتاب الله عز وجل، الاثنين 5 جمادى الأول 1431هـ ألقاها الشيخ أبو همام عبد الله باسعد

وقفات عقدية مع أعظم آية في كتاب الله عز وجل



بسم الله الرحمن الرحيم, والحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على أشرف الخلق والمرسلين نبينا محمد الصادق الأمين وعلى آله الطيبين الطاهرين وعلى أصحابه الغُر الميامين رضي الله عنهم أجمعين.

أما بعد:

فهذه وقفات عقدية مع آية الكرسي التي هي أعظم آية في كتاب الله جل وعلا.

الوقفة الأولى: (في بيان عظم هذه الآية وسبب تسميتها آية الكرسي):

ثبت عند الإمام أحمد رحمه الله في مسنده ومسلم في صحيحه من حديث أُبي بن كعب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم سأله عن أعظم آية في كتاب الله فقال أُبي: آية الكرسي. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (ليهنك العلم أبا المنذر).

ففي هذا الحديث دليل على أن هذه الآية هي أعظم آية في القرآن.

وقد جاء عند الترمذي وحسنه الألباني رحمه الله أنها سيدة آي القرآن, وجاء عند أحمد وأبي داود والترمذي وابن ماجه وحسنه الألباني رحمه الله تعالى أن فيها اسم الله الأعظم (الله لا إله إلا هو الحي القيوم).

وفي حديث أُبي إقراره صلى الله عليه وسلم لأُبي بتسميتها آية الكرسي. وغالب سور القرآن تسمى بشيء ذكر فيها وفي الحديث بيان أن سور القرآن وآياته تتفاضل وكلها من كلام الله جل وعلا.

الوقفة الثانية: (في فضل هذه الآية):

ثبت في البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه في قصته مع الشيطان الذي كان يسرق مال الصدقة. فلما قبضه أبو هريرة في المرة الثالثة قال له: دعني أعلمك كلمات ينفعك الله بها إذا أويت إذا فراشك فأقرأ آية الكرسي من أولها حتى تختم الآية. وقال: لن يزال عليك من الله حافظ ولا يقربك شيطان حتى تصبح وكانوا أحرص شيء على الخير. فلما أخبر أبو هريرة رضي الله عنه النبي صلى الله عليه وسلم بذلك قال: (أما إنه صدقك وهو كذوب, تعلم من تخاطب منذ ثلاث ليال يا أبا هريرة؟ قال أبو هريرة: لا قال: (ذاك شيطان).

فدل الحديث على أن أعظم فضل لهذه الآية الحفظ من الله جل وعلا لعباده. فهي من الأسباب الشرعية للحفظ والوقاية من الجن والشياطين وغيرهم. فلا يكون الحفظ عن طريق تعليق التمائم من حبال وخيوط وخرز وحروز وغيرها من التمائم وقد قال صلى الله عليه وسلم: (من تعلق تميمة فقد أشرك).

الوقفة الثالثة: (مع ما تضمنته هذه الآية من مباحث):

تضمنت هذه الآية ذكر أسماء وصفات الله جل وعلا أثبتها لنفسه ونفى عن نفسه صفات. وبهذا نعلم أن أعظم الكلام في القرآن هو ما فيه الخبر عن الله جل وعلا وأسمائه وصفاته فالأسماء الواردة في هذه الآية:

الله, الإله, الحي القيوم, العلي العظيم, وكل اسم من هذه الأسماء تضمنت صفة.

فالله: تضمنت صفة الألوهية, والإله كذلك.

والحي صفة الحياة, والقيوم صفة القيومية.

والعلي صفة العلو, والعظيم صفة العظمة, فنثبت لله هذه الأسماء وهذه الصفات على ما يليق بالله جل وعلا على حد قوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} وعلى قول الإمام مالك الذي هو قول السلف جميعاً: (الاستواء معلوم والكيف غير معقول والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة) ا.هـ

فنثبت لفظاً ومعنى وأما الكيفية فتفوض إلى الله ويقال على ما يليق به جل وعلا. وقد ضلّت في هذا الباب طوائف التعطيل كالجهمية والمعتزلة والأشاعرة وغيرهم الذين عطلوا الله عما يليق به جل وعلا.

وطوائف التمثيل الذي مثّلوا الله جل وعلا بما لا يليق به وكلتا الطائفتين أخذت جانباً من الآية المحكمة في هذا الباب وتركت جانباً فأهل التعطيل أخذوا قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} وتركوا {وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} وأهل التمثيل أخذوا قوله تعالى: {وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} وتركوا قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ}.

والحق في الأخذ بكل ما جاء في الآية: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ}.

إثبات بلا تمثيل وتنـزيه بلا تعطيل.

وهو مذهب أهل الحق الصحابة والتابعين لهم بإحسان.

الصفات الثابتة لله عز وجل في هذه الآية:

صفة الإذن منه جل وعلا. فهو جل وعلا يأذن لمن يشاء بما شاء, وصفة العلم, وصفة المشيئة, وصفة الحفظ.

الصفات المنفية عن الله عز وجل في هذه الآية:

السِّنة: وهو بداية النعاس.

النوم, والمشقة والأثقال في قوله: {وَلاَ يَؤُودُهُ} أي: لا يشق عليه ولا يثقله, ولا يشتد عليه الأمر ويستصعب.

وفي الآية بيان أن الصفات التي نفاها عن نفسه المراد من نفيها إثبات كمال ضدها وأنها نفيت عنه جل وعلا لكماله في أسمائه وصفاته فله المثل الأعلى كما قال سبحانه: {وَلِلّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَىَ} فهو جل وعلا لا تأخذه سِنة ولا نوم لكمال حياته وقيوميّته.

{وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا}: لكمال علوّه وعظمته جل وعلا.

ولا يعجزه شيء لكمال علمه وقدرته {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِن شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا}. وهكذا سائر الصفات التي نفاها الله جل وعلا عن نفسه في كتابه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم. فالمراد من نفيها إثبات كمال ضدها لأن النفي عدم ليس كمالاً إلا إذا كان المراد ثبوت ضده.

وبهذا يُعلم أن النفي المحض لا يوجد في نصوص الكتاب والسنة لأنه لا يدل على وجود فضلاً عن أن يكون كمالاً ومدحاً. وفي هذا الباب ضلت المعطلة الذين وصفوا الله بالنفي المحض حيث قالوا: لا داخل العالم ولا خارجه ولا فوق ولا تحت ولا متصل ولا منفصل ولا يمين ولا شمال ... إلخ

ما قالوه من نفي الصفات التي لا يُراد من نفيها إثبات كمال ضدها إذ هم لا يثبتون لله صفات الكمال. وبهذا وصفوا الله جل وعلا بالعدم وادعوا أنهم يعبدون إلهاً موجوداً محموداً وفي الحقيقة إنما هم يعبدون عدماً.

كما أن الممثلة يعبدون صنماً, كما قال ذلك السلف.

الوقفة الرابعة: (في بيان أن الشفاعة ملك لله جل وعلا):

ولذلك لا يشفع أحد إلا بإذنه لأنه لا يتصرف أحد في ملك الله إلا بإذنه جل وعلا. قال تعالى: {قُل لِّلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا}, وقال في هذه الآية: {مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ} فهذا شرط لحصول الشفاعة الإذن من الله فلا يشفع نبي ولا ملك ولا صالح إلا بإذنه جل وعلا, حتى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.

والشرط الثاني: الرضا عن الشافع والمشفوع له {وَكَم مِّن مَّلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَن يَشَاء وَيَرْضَى} إنما يشفع يوم القيامة بعد إذنه جل وعلا له بالشفاعة وهو المقام المحمود الذي وعده بقوله: {عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا}. وقد جاء في حديث الشفاعة العظيم في الصحيحين وغيرهما عن عدد من الصحابة وفيه أنه صلى الله عليه وسلم يسجد لربه جل وعلا ويحمده سبحانه بما يفتح عليه ثم يقال له بعد ذلك ارفع رأسك وسل تعط واشفع تشفع فيشفع عليه الصلاة والسلام.

ومن الشفاعة الثابتة له صلى الله عليه وسلم يوم القيامة شفاعته لأهل الكبائر. وهذه الشفاعة التي ينكرها الخوارج والمعتزلة بناء على معتقدهم الفاسد في الحكم على أهل الكبائر بالخلود في النار يوم القيامة.

وفي هذه الآية بيان أن الشفاعة تكون عنده جل وعلا وهذا مما يدل على علو الله جل وعلا. وهكذا في قوله تعالى: {وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ}.

وأهل السنة يثبتون علو الله جل وعلا علو الذات وعلو القدر وعلو القهر. وأما أهل البدع فإنهم إنما يثبتون علو القدر وعلو القهر ولا يثبتون علو الذات مع أن الأدلة على ذلك قد بلغت ألف دليل ذكرها ابن القيم في مواضع من كتبه والذهبي في العلو للعلي الغفار.

وفي الآية عظم الكرسي. وقد فسره ابن عباس بموضع قدمي الرب جل وعلا. على ما يليق بالله جل وعلا.

فالآية دلت على أن الكرسي وسع السموات والأرض. وقد جاء بعض الأحاديث عنه صلى الله عليه وسلم فيها بيان عظم الكرسي وأن فضله على السموات والأرض كفضل الفلاة على حلقة أُلقيت فيها.

وعظم المخلوق يدل على عظم الخالق العظيم جل وعلا.

وفي الآية ردٌ على كل من ادعى علم الغيب.

فإنه جل وعلا قال: {وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاء}.

وفي الآية الأخرى: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا*إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا*لِيَعْلَمَ أَن قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا}.

وقال تعالى: {قُل لَّا يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ}.

وقال تعالى: {وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَاْ إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}.

فنسأل الله جل وعلا أن يجعلنا ممن فقهه في دينه وممن يُهنّأ بالعلم الموروث عن سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

وكتبه :

أبو خالد وليد مقرم

بدار الحديث بالشحر

الاثنين 5 جمادى الأول 1431هـ

  • 20 جمادى الأولى 1431هـ - 03/05/2010مـ