كتاب الطهارة 2

الدرس في كتاب الطهارة 2، ألقاها

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله حمدًا كثيرًا مباركًا فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.

ثم أما بعد، توقفنا في الدرس الماضي عند الكلام على مصادر الفقه الأساسية، وذكرنا أن المصادر الأساسية للفقه هي القرآن الكريم والسنة المطهرة والإجماع والقياس. وذكرنا أن الثلاثة الأولى مجمع عليها، نقل غير واحد الإجماع عليها. والمقصود بالمجمع عليه من الإجماع ما كان إجماعًا متيقنًا، إلا أن علماء الأصول وكذلك علماء الفقه لهم تفاصيل، وكذلك جزئيات في مسألة الإجماع: متى يكون حجةً ومتى لا يكون حجةً، ومتى يكون معتبرًا ومتى لا يكون معتبرًا، إلى غير ذلك. ومحل ذلك كتب الأصول.

وتقدم معنا كذلك إشارات إلى مسألة القياس. وكما سمعتم، بعض أهل العلم قالوا إن الإجماع على أن القياس معتبر، وأن القياس أحد الأدلة، والخلاف مشهور عن الظاهرية. وكذلك كما تقدم أن التفصيل في هذا المقام هو الصواب، أي يفرق بين القياس المعتبر الصحيح فيكون حجة، وما لم يكن كذلك فلا يكون. قال رحمه الله تعالى: وقالوا موضوع الفقه أفعال المكلفين من العباد على نحو عام وشامل، فهو يتناول علاقات الإنسان مع ربه ومع نفسه ومع مجتمعه.

وكما ذكروا أن موضوع الفقه يعني ماذا؟ على ماذا؟ ما هو موضوع الفقه؟ وهذه المقدمة التي يتمهيد فيها ذكر مبادئ هذا العلم وهذا الفن، فذكروا تعريفه، أي الحد، وذكروا كذلك مصادره، وذكروا موضوعه، وذكروا الثمرة، وذكروا فضله. فالحاصل أنهم قالوا في موضوع الفقه أفعال المكلفين من العباد على نحو عام وشامل.

وقولهم أفعال المكلفين من العباد قد يراد به أفعال المكلفين من العباد، أي من الناس، فيخرج بذلك غير المكلفين، مثل المجنون، مثل الطفل، وما شابه ذلك. فإن أريد بقول "أفعال المكلفين" هذا المعنى، فيكون هذا المعنى أغلبي. وإلا فإنه يتناول غيرهم، لأن الفقه يتكلم كذلك ويتناول أحكام الطفل، وكذلك أحكام المجنون في مسائل كثيرة من أبواب الفقه. في أبواب العبادات، يعني صلاة الطفل، متى يصلي الطفل، ومتى تجب عليه الصلاة، إلى غير ذلك من المسائل. وكذلك في مسائل الزكاة، وكذلك في أبواب الضمانات، الجنايات، وما شابه ذلك. وهي من أبواب الفقه، وإن كانت من أحكام الوضعية.

فالفقه يتناول هذا وذاك، يتناول الأحكام التكليفية، وكذلك يتناول الأحكام الوضعية. فالحاصل أنه إذا أريد بقولهم المكلفين أي البالغين العاقلين، فيكون هذا تعريف أغلبي. وإن أريد به المكلفين، فخرج أراد بالمكلفين من كلفهم الله جل وعلا بعبادته العبادة الخاصة، وهم الإنس والجن. كما قال الله جل وعلا: "وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون". عبادة خاصة وإن كانوا يشملهم العبادة العامة، التي هي عبادة الملك والقهر. فيكون قولهم "من العباد"، أي من المخلوقات. وعلى هذا، فيكون الأمر واضحًا، فموضوع الفقه أفعال مكلفين، أي الإنس والجن، الإنس والجن من المخلوقات، لأن من سواهم فإنه ليس مخاطبًا بشيء من هذه الأمور.

طيب، قولهم "على نحو عام شامل" أي أن موضوع الفقه عام وشامل. قال: "فهو يتناول علاقات الإنسان مع ربه ومع نفسه ومع مجتمعه". فهو عام شامل. وهذا يبين لنا عموم هذا الدين وشمولية هذا الدين، وأنه عام شامل في كل صغيرة وكبيرة مما يحتاجه الناس في أمور دينهم ودنياهم.

قالوا إنه يتناول الأحكام العملية وما يصدر عن المكلف من أقوال وأفعال وعقود وتصرفات، وهي نوعان. الأول: أحكام العبادات من صلاة وصيام وحج ونحوها. الثاني: أحكام المعاملات من عقود وتصرفات وعقوبات وجنايات وضمانات، وغيرها مما يقصد به تنظيم علاقات الناس بعضهم مع بعض.

ومن هنا يتبين لنا أن الفقه وأبواب الفقه تنقسم إلى قسمين: إلى عبادات ومعاملات. والعبادات كما مثلوا: كالصلاة والصيام والحج، وما تعلق بها من شروط وواجبات ومستحبات إلى غير ذلك. هذه من العبادات. وأما أحكام المعاملات، فمن عقود، كما ذكر، وتصرفات، وعقوبات، وجنايات، وضمانات، إلى غير ذلك. هذه من أبواب المعاملات.

والفقه قد ضم هذا وذاك، فهو شامل عام لأبواب العبادات وكذلك لأبواب المعاملات. وفي هذا بيان واضح وجلي بأن هذا الدين عام شامل وكامل. ففيه رد على من فصل الدين عن الدنيا وعن السياسة، فقالوا: الدين خاص بالأمور الدينية، وأما أمور السياسة وأمور الدنيا وترتيبها وتنظيمها إلى غير ذلك، فلها شأن آخر، لا دخل للدين فيها. هذا قول باطل، أي الفصل بين أمور الدين وبين أمور السياسة. لأن الدين بحمد الله جل وعلا وحده لا شريك له كامل وشامل لجميع أمور الدنيا والدين، لكل ما يحتاجه الناس في دينهم ودنياهم. وهذا من فضل الله رب العالمين وحده لا شريك له. فقال في كتابه: "اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينًا." ونبينا صلى الله عليه وسلم كان هو المعلم لأمته أمور العبادات وأمور المعاملات، وكل ما يحتاجونه في أمور دينهم ودنياهم. لا فصل بين هذا وذاك.

ولكنها لوثة أصلها من جهة المستشرقين، وانتشرت، وأعانى على شهرها وذيعها بين أوساط المسلمين كثير من جهلة المسلمين. وقد يكون فيهم بعض المنافقين من أعداء هذا الدين مندسين فيه. فالحاصل أن هذه دعوة باطلة، أي دعوة باطلة لفصل الدين عن السياسة.

قالوا إن هذه الأحكام يمكن حصرها فيما يلي:

واحد: أحكام الأسرة من بدء تكوينها إلى نهايتها، أي الأحكام التي ضمها الفقه الإسلامي. الأول قالوا: أحكام الأسرة من بدء تكوينها إلى نهايتها، وتشمل أحكام الزواج، والطلاق، والنسب، والنفقة، والميراث، ونحوها. أي من الأمور. وهذا يدلنا على شمولية هذا الدين.

قالوا الثاني: أحكام المعاملات المالية المدنية، وهي المتعلقة بمعاملات الأفراد ومبادلاتهم من بيع، وإجارة، وشركة، ونحوها. هذه فيما يحتاجه الناس من المعاملات فيما بينهم، بين بيع وشراء، وإجارة، وشركة، إلى غير ذلك من الأمور.

الثالث: الأحكام الجنائية، وهي التي تتعلق بما يصدر عن المكلف من جرائم وتعديات، وما يستحقه عليها من عقوبات. وهذا كذلك مما يدلنا على شمولية هذا الدين لكل صغيرة وكبيرة مما يحتاجه العباد في أمور دينهم ودنياهم.

الرابع: أحكام المرافعات والقضاء، وهي المتعلقة بالقضاء في الخصومات والدعوة، وطرق الإثبات، ونحوها.

الخامس: الأحكام الدولية، وهي التي تتعلق بتنظيم علاقات الدولة الإسلامية بغيرها من الدول في السلم والحرب، وعلاقة غير المسلمين المواطنين بالدولة. وتشمل الجهاد، والمعاهدات.

إذن، من هذه الأمور وهذه المرتكزات يتبين لنا بيانًا واضحًا بإن الله جل وعلا شمولية هذا الدين لكل ما يحتاجه الناس في أمور دينهم، وكذلك في أمور دنياهم. والموفق من وفقه الله جل وعلا، فاستجاب لأمر الله جل وعلا، فحكم كتاب الله جل وعلا وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم في كل صغيرة وكبيرة، من أمور الظاهر والباطن.

قالوا: ثمرت علم الفقه، أي ما هي الثمرة من علم الفقه؟ قالوا: معرفة الفقه والعمل به تثمر صلاح المكلف وصحة عبادته، واستقامة سلوكه. وإذا صلح العبد، صلح المجتمع، وصارت النتيجة في الدنيا السعادة والعيش الرغب، وفي الأخرى رضوان الله وجنته. إذا ثمرت علم الفقه، أولا: صلاح عبادات الناس ومعاملاتهم، أي صحتها. وينتج عن هذا صلاح الفرد، وينتج عن صلاح الفرد صلاح المجتمع. وهذه ثمارٌ دنيوية، وكذلك دينية، وثمارٌ أخروية. أنه ينال بهذا التفقه والعمل بما خطط ذلك الفقه الفوز برضوان الله جل وعلا، وهذا من أعظم النعيم لمن وفقه الله جل وعلا لذلك.

قالوا: فضل الفقه في الدين والحث على طلبه وتحصيله، أي ما هو فضله؟ قالوا: إن التفقه في الدين من أفضل الأعمال، ومن أطيب الخصال، وقد دلت النصوص من الكتاب والسنة على فضله والحث عليه. منها قوله تعالى: "وما كان المؤمنون لينفروا كافة، فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين، ولينذروا قومهم إذا

 رجعوا إليهم لعلهم يحذرون." يقول الله جل وعلا: "وما كان المؤمنون لينفروا كافة، فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة." لماذا؟ ليتفقهوا في الدين، ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون. وقد ذكى العلماء رحمهم الله تعالى أن هذا الفضل الواضح للعلم بأن الله جل وعلا قرنه بالجهاد. بأن الله جل وعلا قرن العلم بالجهاد فقال: "فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة." والعلماء رحمهم الله تعالى في تفسير هذه الآية على قولين: أي هل النافرون الغزة أم أن النافرين هم طلبة العلم؟ والأمر، سواء كان هذا أو ذاك، فالأمر يرجع إلى ماذا؟ إلى أن طائفة تتفقه، وطائفة تكون في ماذا؟ تغزو في سبيل الله جل وعلا، فتكون المتفقهة تحفظ على الناس أمور دينهم. إذا رجعوا، تنذر القوم إذا رجعوا بما حصل من العلم، وما نالوا من العلم، فيتفقه الجميع فينال الغازون فضل الغزو، ثم يتفقهون ولا يفوتهم شيء من العلم.

وقول صلى الله عليه وسلم: "من يريد الله به خيرًا، يفقه في الدين." قالوا: فقد رتب النبي صلى الله عليه وسلم الخير كله على الفقه في الدين. وهذا مما يدل على أهميته، وعظم شأنه، وعلو منزلته. وقول النبي صلى الله عليه وسلم: "من يرد الله به خيرًا، يفقه في الدين." وهذا كما يقول بعض أهل العلم، هذه من علامات محبة الله جل وعلا للعبد، من علامات محبة الله جل وعلا للعبد أن الله جل وعلا يوفق العبد للتفقه في الدين. فإذا تفقه العبد في دين الله جل وعلا، وصلح حاله ظاهرًا وباطنًا، كان هذا من أعظم الفضل والخير الذي ناله من ربه جل وعلا. لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "من يرد الله به خيرًا، يفقه في الدين." والفقه في الدين محبوب، الفقه في الدين محبوب إلى الله جل وعلا، فلا يوفق له إلا من أحبه سبحانه وتعالى. ولا سيما إذا صلح حاله ظاهرًا وباطنًا.

وأما من تفقه في الدين، وكان عمله يخالف علمه، فهذا ممن يكون العلم وبالًا عليه. وقد جاء في حديث عمر في صحيح مسلم قال ماذا؟ وقال نبينا صلى الله عليه وسلم قلت قد سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الله ليرفع بهذا الكتاب أقوامًا ويضع فيه آخرين." وقد جاءت الآثار كذلك في هذا المعنى. في هذا المعنى أن القرآن حجة لك أو عليك، حجة لك أو عليك.

قالوا: فقد رتب النبي صلى الله عليه وسلم الفقه في الدين، وهذا مما يدل على أهميته، وعظم شأنه، وعلو منزلته. وقوله صلى الله عليه وسلم: "الناس معادن. خيار في الجاهلية خيار في الإسلام إذا فقهوا." قالوا: كذلك هذا يدل على أهمية العلم. الناس معادن. خيار في الجاهلية خيار في الإسلام إذا حصلت لهم هذه الخصلة. ما هي؟ الفقه في الدين. فإذا فقهوا وصاروا فقهاء، فقد كانوا من الخيار، كانوا من خيار بإذن الله جل وعلا.

قالوا: الفقه في الدين منزلة في الإسلام عظيمة ودرجته في الثواب كبيرة، لأن المسلم إذا تفقه في أمور دينه، وعرف ما له وما عليه من حقوق وواجبات، يعبد ربه على علم وبصيرة، ويوفق للخير والسعادة في الدنيا والآخرة. وهذه، كما ترون، من الثمار العاجلة لمن وفقه الله جل وعلا في التفقه في دين الله جل وعلا.

وهذه الأدلة المذكورة، كما يقال، هي إشارات لفضل العلم. هي إنما إشارات لفضل العلم. وإلا فإن العلماء رحمهم الله تعالى قد ألفوا المؤلفات، وصنفوا المصنفات في فضل العلم، وذكروا ما ذكروا من الأدلة من كتاب الله جل وعلا، ومن سنة رسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم على فضل العلم، وكذلك ما كان عليه الصالحون من التسابق في العلم. وكما قيل: حسبك بالعلم أن كل واحد، حتى الجاهل، يتشرف به، ويكره ضده. الجاهل وإن كان جاهلًا، إذا وصف بالعلم، يفرح، أم لا؟ ها يا جماعة، يفرح، لأنه شرف. وإذا وصف بضده، ماذا يحصل له؟ ينزعج، وذلك لشرف العلم. وكذلك كراهة أو نقص ضد العلم هو ماذا؟ وهو الجهل.

فنكتفي بهذه المقدمة في هذا اليوم، وندخل بإذن الله جل وعلا في الدرس، في الباب الأول، في الدرس الآتي بإذن الله جل وعلا. إلى هنا، سبحانك اللهم وبحمدك، لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.

  • 27 جمادى الأولى 1433هـ - 18/04/2012مـ
  • 5.15MB
  • 22:29

شاركنا على